تبدأ السورة بالحرب يعلنها الله علىالمطففين : ( ويل للمطففين ) .. والويل : الهلاك ..
( الذين إذا اكتالوا على الناسيستوفون . وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ) .. فهم الذين يتقاضون بضاعتهم وافية إذاكانوا شراة . ويعطونها للناس ناقصة إذا كانوا بائعين .. ثم تعجب الآيات الثلاثةالتالية من أمر المطففين ، الذين يتصرفون كأنه ليس هناك حساب على ما يكسبون فيالحياة الدنيا ، وكأن ليس هناك موقف جامع بين يدي الله في يوم عظيم يتم فيه الحسابوالجزاء أمام العالمين :
( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ؟ يوم يقوم الناسلرب العالمين ؟ ) .. والتصدي لشأن المطففين بهذا الأسلوب في سورة مكية أمر يلفتالنظر . فالسورة المكية عادة توجه اهتمامها إلى أصول العقيدة الكلية : كتقريروحدانية الله.. وكحقيقة الوحي والنبوة .. وكحقيقة الآخرة والحساب والجزاء . معالعناية بتكوين الحاسة الأخلاقية في عمومها ، وربطها بأصول العقيدة . أما التصديلمسألة بذاتها من مسائل الأخلاق - كمسألة التطفيف في الكيل والميزان - والمعاملاتبصفة عامة ، فأمر جاء متأخرا في السورة المدنية عند التصدي لتنظيم حياة المجتمع فيظل الدولة الإسلامية ، وفق المنهج الإسلامي ، الشامل للحياة .. ومن ثم فإن التصديلهذا الأمر بذاته في هذه السورة المكية أمر يستحق الانتباه . وهو يشي بعدة دلالاتمتنوعة : إنه يدل أولا على أن الإسلام كان يواجه في البيئة المكية حالة صارخة منهذا التطفيف يزاولها الكبراء ، الذين كانوا في الوقت ذاته هم أصحاب التجاراتالواسعة ، التي تكاد تكون احتكارا ... استحقت هذه اللفتة المبكرة . كما أن هذهاللفتة المبكرة في البيئة المكية تشي بطبيعة هذا الدين ؛ وشمول منهجه للحياةالواقعية وشؤونها العملية ؛ وإقامتها على الأساس الأخلاقي العميق الأصيل في طبيعةهذا المنهج الإلهي القويم . فقد كره هذه الحالة الصارخة من الظلم والانحرافالأخلاقي في التعامل . وهو لم يتسلم بعد زمام الحياة الاجتماعية ، لينظمها وفقشريعته بقوة القانون وسلطان الدولة .
ومن ثم ندرك طرفا من الأسباب الحقيقية التيجعلت كبراء قريش يقفون في وجه الدعوة الإسلامية هذه الوقفة العنيدة . فهم كانوايدركون - ولا ريب - أن هذا الأمر الجديد الذي جاءهم به محمد ليس مجرد عقيدة تكمن فيالضمير .. كلا .
لقد كانوا يدركون أن هذه العقيدة تعني منهجا يحطم كل أساس الجاهليةالتي تقوم عليها أوضاعهم ومصالحهم ومراكزهم .. ومن ثم شنوا عليها تلك الحرب التي لمتضع أوزارها لا قبل الهجرة ولا بعدها . الحرب التي تمثل الدفاع عن أوضاعهم كلها فيوجه الأوضاع الإسلامية .
( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ؟ يوم يقوم الناسلرب العالمين ؟ ) .. وإن أمرهم لعجيب . فإن مجرد الظن بالبعث لذلك اليوم العظيم . يوم يقوم الناس متجردين لرب العالمين .. إن مجرد الظن بأنهم مبعوثون لذلك اليوم كانيكفي ليصدهم عن التطفيف ، وأكل أموال الناس بالباطل .. ولكنهم ماضون في التطفيفكأنهم لا يظنون أنهم مبعوثون ! وهو أمر عجيب ، وشأن غريب!