كلمة ( كلا ) تجيء في صدر هذا المقطع زجراعما ذكر قبله من التكذيب . ثم يبدأ الحديث عن الأبرار في حزم وفي توكيد . فإذا كانكتاب الفجار في ( سجين ) فإن كتاب الأبرار في ( عليين ) ... والأبرار هم الطائعونالفاعلون كل خير . وهم يقابلون الفجار العصاة المتجاوزين لكل حد .. ولفظ ( عليين(يوحي بالعلو والارتفاع مما قد يؤخذ منه أن ( سجين ) يفيد الانحطاط والسفول .
ثميعقب عليه بسؤال التجهيل والتهويل المعهود : ( وما أدراك ما عليون ؟ ) .. فهو أمرفوق العلم والإدراك ! ويعود إلى تقرير حقيقة كتاب الأبرار .. فهو ( كتاب مرقوميشهده المقربون ) وقدسبق ذكر معنى مرقوم . ويضاف إليه هنا أن الملائكة المقربينيشهدون هذا الكتاب ويرونه .. فهو موضع مشاهدة المقربين من الملائكة ، ومتعتهم بمافيه من كرائم الأفعال والصفات. ثم يذكر حال الأبرار أنفسهم ، أصحاب هذا الكتابالكريم .
ويصف ما هم فيه من نعيم في ذلك اليوم العظيم : ( إن الأبرار لفي نعيم )..يقابل الجحيم الذي ينتهي إليه الفجار ..( على الأرائك ينظرون ) أي إنهم في موضعالتكريم ، ينظرون حيث يشاءون ، لا يغضون من مهانة ، ولا يشغلون عن النظر من مشقة .. وهم على الأرائك. وهم في هذا النعيم ناعمو النفوس والأجسام ، تفيض النضرة علىوجوههم وملامحهم حتى ليراها كل راء : ( تعرف في وجوههم نضرة النعيم ) .. ( يسقون منرحيق مختوم ختامه مسك ) .. والرحيق الشراب الخالص المصفى ، الذي لا غش فيه ولا كدرة
. ووصفه بأنه مختوم ختامه مسك ، قد يفيد أنه معد في أوانيه ، وأن هذه الأواني مقفلةمختومة ، تفض عند الشراب ، وهذا يلقي ظل الصيانة والعناية . وقبل أن يتم وصف الشراب .. يلقي بهذا الإيقاع ، وبهذا التوجيه : ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) .. وهوإيقاع عميق يدل على كثير : إن أولئك المطففين .. إنما يتنافسون في مال أو متاع منمتاع الأرض الزهيد . يريد كل منهم أن يسبق إليه ، وأن يحصل على أكبر نصيب منه . ومنثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل .. وما فيهذا العرض القريب الزهيد ينبغي التنافس .
إنما يكون التنافس في ذلك النعيم وفي ذلكالتكريم : ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) .. فهو مطلب يستحق المنافسة ، وهو أفقيستحق السباق ، وهو غاية تستحق الغلاب . والتنافس في نعيم الآخرة لا يدع الأرضخرابا بلقعا كما قد يتصور بعض المنحرفين . إنما يجعل الإسلام الدنيا مزرعة الآخرة ،ويجعل القيام بخلافة الأرض بالعمار مع الصلاح والتقوى وظيفة المؤمن الحق . على أنيتوجه بهذه الخلافة إلى الله ، ويجعل منها عبادة له تحقق غاية وجوده.